النجوم الأولى...وحوش شرسة

كانت النجوم الأولى في الكون وحوش شرسة ذات مدة حياة قصيرة. و قد عملت على تغيير طبيعة الكون إلى الأبد, و ذلك بما أطلقتهُ من ضباب مظلم خنق الفضاء لـ300 مليون سنة كما أغنى الكون بمادة الحياة.

هذه هي الأخبار الناتجة عن محاكاة جديدة على الحاسوب للسنوات الأولى من عمر الكون, قام بها مجموعة من الفلكيين تحت قيادة نايوكي يوشيدا (Naoki Yoshida) من جامعة ناغويا (Nagoya) في اليابان.

تُظهر لنا الحسابات كيف يُمكن لكتلٍ صغيرة في توزيع المادة و الطاقة أن تجذبَ المزيد من المادة بواسطة الجاذبيّة, و تُسَخَّن و تنكمش و تصبح أولى "الأجسام الكونيّة", و هي بذور صغيرة للنجوم الأولى و تُعادل 1% من كتلة شمسنا الحاليّة. و خلال 10 آلاف سنة تقريباً, نمت هذه الكتل إلى نجوم عملاقة, على الأقل أكبر من شمسنا الحالية بـ100 مرة, و ذلك عن طريق امتصاص سُحب الغاز المحيطة بها.

و قد تكون تلك النجوم الأولى التهبت بشكلٍ زاهٍ و ماتت صغيرة بعد احتراقٍ دام لمليون سنة فقط. و هذا يعني أن هذه المحاكاة الحاسوبيّة هي التلسكوب الوحيد الذي نستطيع مراقبة تلك النجوم من خلالها.

قال د.يوشيدا, "تُقدِّم لنا هذه المحاكاة صورة واضحة جداً عن كيفيّة تشكُّل النجوم الأولى". قام هو و زملائه بنشر هذه النتائج في ورقة بحثيّة نُشِرت في مجلة "العلم" يوم الجمعة.

قال فولكير برام (Volker Bromm), و هو فلكيّ من جامعة تكساس في أوستن, و الذي لم يكن جزء من الفريق, قال بأنَّ عمل الدكتور يوشيدا كان بأخذ المحاكاة للكون المبكر إلى مستوى جديد, بالرغم من بقاء الكثير من العمل ليتم إنجازه. و كتب في تعليق رافق الورقة البحثيّة المنشورة, "إنَّ الهدف النهائيّ في توقّع كتل و خصائص النجوم الأولى, قابل للتحقيق الآن".

لارس هيرنكويست (Lars Hernquist) من مركز هارفورد للفيزياء الفلكيّة التابع لمؤسسة سميثسوني, و عضو في فريق د.يوشيدا, وصف الحسابات كمحاولة لملئ فجوة في المعرفة الكوزمولوجيّة.

يمتلك الفلكيون فكرة جيدة عما كان عليه الكون في عمر 400 ألف سنة, و ذلك من دراسة بقايا سديم الموجات المغناطيسيّة الكهربائيّة ذات التردد العالي التي بقيت من الانفجار الكبير. و قال, "صُمِّمت هذه الدراسة لتساعدنا على فهم كيف جاءت هذه الأجسام إلى الكون, و كيف أثّرت هذه الأجسام فيما جاء بعدها".

كان ظهور النجوم الأولى, منذ حوالي 300 مليون سنة بعد الانفجار الكبير, حدثاً هاماً لسببين. أولاً, أضاءت تلك النجوم الكون الذي كان مظلماً بعد انخفاض حرارته الناتجة عن الانفجار الأول. و خلال الانشطار النووي الحراري, بدأت هذه النجوم بعمليّة تحويل كيميائيّة للكون, و ذلك من التركيبة الأساسيّة له, و هي هيدروجين و هليوم نقيّين, إلى العناصر الأثقل الموجودة اليوم, مثل الكربون و الأوكسجين و النتروجين و الحديد.

تحترق النجوم ذوات الكتل الكبيرة أسرع و بدرجات حرارة أعلى, و تُنتج عناصر ثقيلة بشكلٍ أغزر من النجوم ذوات الكتل الأصغر. و لذلك, قد تعني نتائج الدكتور يوشيدا أنَّ عمليّة الإغناء بالمادة هذه, قد حدثت ببداية سريعة يستطيع الفلكيون أن يختبروها عن طريق النظر إلى غزارة مثل هذه العناصر في أقل الكتل و أقدم النجوم الموجودة حولنا.

و قد كانت هذه النجوم أيضاً تُنتج الإشعاعات الفوق بنفسجيّة بشكلٍ غير اعتيادي, و هو ما احتاجتهُ تماماً لتأيين الهيدروجين, الذي ملأ الكون مثل الضباب الأكمد, بعد أن انخفضت الحرارة الناتجة عن الانفجار. و هكذا جعلت منه شفّافاً للضوء المرئيّ, فانتهى ما يدعوه علماء الكونيّات بـ"العصور المُظلمة".

اعتقد الفلكيون لفترة طويلة أنَّ النجوم الأولى ربما كانت هائلة, لأنها بدون العناصر الثقيلة التي يدعوها الفلكيون بالمعادن. فغيوم الهليوم و الهيدروجين, الغازات البدائيّة, لا يُمكن أن تبرد بسهولة. و لذلك, بينما كانت الكتل الصغيرة تحت ضغط المادة القادمة, تم تسخينها و تمديدها. وفقط في وجود كميّات كبيرة من الغازات, تستطيع الجاذبية أن تتغلّب على الضغط, و عندها يبدأ النجم بالتشكل.

استخدم الفلكيون الحواسب لعقودٍ طويلة من أجل محاكاة حركة الجزيئات الكونيّة المتشكلة تحت تأثير الجاذبيّة, و لكن كان عليهم التوقف عندما أصبحت التكتلات كثيفة و حارة بشكلٍ كافي للقِوَى الأُخرى -مثل الإشعاعات و الحرارة و ديناميكا الغازات- لتبدأ بتعقيد الأشياء.

و قال د.يوشيدا أنَّ برنامج الحاسوب الذي استخدمهُ "يشبه قطعة فنيّة", و أخذ 7-8 سنوات من التطوير. والمُحاكاة, التي أُدِّيَت على شبكة من 70 حاسوب, تبدأ بالكون كخليط ناعم من الهيدروجين و الهليوم و المادة المظلمة الغامضة –ربما كغيوم من جزيئات أوليّة غير معروفة للآن- التي تقوم جاذبيّتها بتنظيم توزيع المادة في الكون.

و مع مرور الوقت, تموُّجات صغيرة في المادة المُظلمة تتسبَّبُ بخلط المادة العاديّة و تسخينها و فقدانها للطاقة عن طريق الإشعاعات, و من ثم تنكمش في النهاية مُشكِّلةً بُذور مستقرة ذات كثافة تبلغ 1 من 100 من كثافة الماء, و حوالي 1 من 100 من كتلة الشمس. وهذا ما وصلت إليه الحسابات الصارمة لحد الآن. البذور مُحاطة بكميّات ضخمة من الغاز التي من المحتمل تماماً أن تكون نَمَت منها. لكن السؤال عن الكميّة الدقيقة, يعتمد على حسابات إضافيّة لم تُجرى بعد.

وبشكلٍ ملحوظ, لم تُظهر الحسابات الغاز و هو يتجزأ إلى مجموعات أصغر في طريقه لتشكيل النجم البدائيّ. ويقول د.هيرنكويست, لو أنَّ المادة الأولى تجزّأت, لكانت النجوم الأولى أقرب إلى شمسنا الحاليّة في كتلها و تواريخ حياتها و كيفيّة موتها. و قال, "من المهم جدّاً أن نقرر في النهاية كم كانت هذه النجوم هائلة. و هذا ما سيساعد الفلكيين أن يستدلوا على ما قد يكون حدث لتلك النجوم. هل بُعثِروا إلى السماء في انفجارات سوبرنوفا, أو رُبما انهاروا إلى ثقوبٍ سوداء؟